بدا كلّ شيء ساكناً. دخلَ الشقة من الباب الخشب، فبدا له كأنّ الفضاء ينعمُ بسكينة غامرة، وغير معهودة. الرياشُ في محله مسوّى. أواني المطبخ مغسولة، منشفة، مرتبة. كسوته في دافن الدولاب معلقة على نحو منظّم، لا يعلو قطعها أبسط انزياح. لكأنّ يداً مبسوطة، حنونة، نبيلة، خدومة، مرّت على الشقة بلمسات سحر عجيب، فأعادت مشغولاتها كلّها إلى مواضعَ تستريح لها العينُ الناظرةُ، ويهنأُ لها الخاطرُ الأسيانُ. حتّى أزواج الحذاء التي يتركها، في الغالب الأعمّ، خلف الباب، أو تحت السرير، أو جوار الصوفا، وجدها ممسوحة، مدهونة، مصفّفة، كما يجبُ، في جيوب الحمالة البلاستيك في البالكون.
هل اندهشَ؟
كان عليه أن يفعلَ. كان عليه أن يفغرَ فاه، وهو يسوّي المفتاح في الضبّة، ثمّ وهو يفتحُ البابَ، فيما تصفع خياشيم أنفه تلك الرائحة المعطّرة التي تنزّ بها الشقّة. لم يفعلْ. لا الفمَ فغرَ، ولا العينين وسّع على آخرهما، مثلما يقتضي المقام. ولم يصدر لفظ مصاقبة حتّى. لم يقلْ: آه! لم يقلْ: واو! لم يقلْ: أهاه! لم يقلْ: طططط! الألفاظُ إيّاها، يفضي بها في أوقاتٍ دون أخرى. الآن، وهو يلجُ الشقة لم يطأ لفظ الدهشة فمه، لم يناوش عضلةَ لسانه أو يداعبها، ظلّ ساكتاً، بينما هو يتحرّك بسكون في الغرف الثلاث للشقة وفي باقي أنحائها. يطلّ عبر الباب إلى الباطن دون أن ينبس بكلمة. ثمّ يغلقُ، ويعيدُ فتحه، ويطلّ من جديد. وما يفتأ فينصرف من غير أن يقفلَ باباً. ومن إجلاله للمكان، كما لقيه، التزم بالهدوء الذي يغشاه. فقط، حالة من الحيرة انتابته. يحسّ بها، لكنّه لا يقدر أن يفصح عنها. يشعرُ بكرة الحيرة تكبرُ في دخيلته كبالون، بيد أنّه لا يستطيع أن يعلن عنها، على الأقلّ في هذه اللحظة بالذات. لم تكن الحيرة وحدها تلك التي تلبّسته، يل ثمّة أيضاً سؤالٌ. حيرةٌ وسؤالٌ. لنقلْ إنّ ما يعتصرُ دماغه في تلك الدقائق المتسارعة هو سؤالٌ محيّرٌ: منْ صنع بشقتي كلّ هذا؟
لا يتذكّرُ كيف خلف الشقة وهو يغادرُها صباحَ البارحة. بيد أنّه متيقّنٌ من أنّه تركها على غير ما وجدها في مساء هذا اليوم. لم تكن أواني المطبخ مغسولة. كانت، بالأحرى، مركومة، كيفما اتفق، في صحن المغسل الإينوكس. الكؤوس والقنينات منتصبة في غير انتظام على سعة الطاولة الزجاج. شرشف الفراش مدلّى إلى أسفل، والمخدات على تبعثرها تركها. الحذاء! أيّ حذاء؟ الأمغر أم البني أم الأسود أم الأسود بالكعب أم آخر بدونه؟ أيّ حذاء كان بالقرب من الصوفا، ومنه تفوح رائحة حامزة؟ لا يتذكّر. غير أنّه يتذكّر أنّه أمضى وقتاً طويلاً يبحثُ عن الزوج الأمغر. ولمّا لم يعثر عليه انتعل الأسود بالكعب. ثمّ خرج مثقلاً بالحقيبة الجلد البنّي، يستعجلُ ركوب القطار. ليست حقيبة سامسونايت تلك التي كمش بيده اليسرى على مقبضها، وهو يمتطي سيارة أجرة في ذلك الصباح الخريفي، ثمّ وهو يقفز إلى القطار فيما هو يتهيّأ للإقلاع. ليست سامسونايت. هذا الطراز من الحقائب لا يغريه. ثمّ ليس هو برجل إدارة، أو رجل أعمال. أستاذٌ من طينته تكفيه محفظة جلد، بين أعطافها يدسّ ملفات ومتاعاً ينفعه ليومه، وقد يضيف أغراضاً غير ذات بال.
وليلة البارحة؟
ماذا جرى ليلة البارحة؟ ماذا جرى في الشقة، ليلة البارحة؟ كيف ينسى؟ بقيت الشلة إلى وقت متأخر من الليل قبل أن يستأذن أفرادُها بالانصراف، الزوج إثر الزوج. تركوا المرمدات عامرة بالأعقاب وسجائر لم تُستف بالكامل. رائحة الدخان تسرّبت إلى الشقوق والثقوب والخروم، التصقت بالحيطان ولوحات التزيين. نفذت الرائحة إلى اللّباس والملاحف وألواح الخشب. آخر المنصرفين، كان غادة. قبّلته الثلاثينية واعتذرت عن المبيت. قالت إنّها لا ترغبُ هذه الليلة. لم تصده، لكن كذلك لم تمنح له فرصة إظهار إلحاح من جانبه. لم يلح هو الآخر. عرض عليها أن يوصلها إلى شقتها، فأخبرت أنّها قادرة على السياقة. في الشارع، قدام العمارة ذات الثمانية طوابق، انتظر استواءها وزان المقود. انتظر إلى أن شغّلت المحرّك. شيّع ببصره انطلاقة السيارة "كيا" الصغيرة ذات الطلاء الفيروزي، حتّى غابت، واطمأن إلى أنّ غادة متحكمة في زمام القيادة.
في الداخل، داخل الشقة، دلف إلى التواليت مباشرة. نظف أسنانه، ثمّ مال إلى غرفة النوم، وأشعل نور الأباجورة الخزف، وعاد يطوف على أزرار الشقة يطفئ المصابيح. بدّلَ لباس الخروج بلباس النوم، وانحشر تحت الغطاء. أحسّ بمنامته باردة، فالتمّ على نفسه يستدعي الدفء.
لعلّ غادة كانت آخر من انتصرف، ما في ذلك من شك. لكنْ منْ كان أوّل المغادرين؟ الزوج أحمد وسعاد أم الزوج أنس ومريم؟ لا يتذكّر. كيف ينسى؟ في جوف الظلمة، يتذكّر أنّه أفاق ودخل التواليت. فقط، وقت كان يخطو جهة المرفق سجّل بحاسة شمّه حجم مقدار سمْك رائحة الدخان بالشقة. فظيع! قال. ونظر إلى نافذتي الصالون المغلقتين. فتح الزجاج الجرّار، وأبقى على الستار البلاستيك المقوّى مسدلاً. أحسّ بانكسار في خطوه. هو من بقايا سكر، خمن. هل سكر الليلة؟ طبعاً سكر، مع فارق هو أنّه لم يثمل. حينما يثقلُ لسانه يوقف الشراب. ليس بشرّيب. حاله في ذلك كحال غادة. هما معاً يشربان بمقدار معلوم؛ المقدار الذي يبقيهما صاحيين ومدركين لتصرفاتهما. وهما في هذا ليسا كفوا الزوجين الصديقين. مرة، قالت له غادة لكم ترغب في سكرة في بار حدّ الثمالة، ثمّ تخرج إلى الشارع، فيما هي تمشي ذات اليمين وذات الشمال. دماغها يقولُ لها امشي على الرصيف، بينما قدماها تجرّانها إلى الطريق الإسفلت. تماماً، كما يحدث للمخمورين. وقالت إنّها ترغبُ في البرطمة والجمجمة واللغط بجانب الفم بكلام لا تفقهُ، في التو، من معناه غير أنّه كلام مرسلٌ على عواهنه. في وقت آخر، قالت له إنّها تتمنّى لو تسكر، ثمّ تقيم وصلة ستريبتيز أمام عيون حاحظة لرجال حديثي الطلاق. تساورها شطحات أفكار لا يعيرها هو اهتماماً.
متأكدٌ هو من أنّها آخر من غادر الشقة. على أنّه لا يريد أن يقطع في ما إذا كان فعلاً رافقها إلى السيارة بالشارع. ربّما قد يكون هبط معها المصعد إلى غاية باب العمارة. لا بدّ أن يكون صاحبها إلى مدخل العمارة، وإلاّ كيف تفتح الباب؟ في الواقع، قد يكون الذي حدث هو أنّه خفرها إلى حين شغّلت سيارتها "كيا" الفيروزية، واختفت عن ناظريه في الضوء الخافت لمصابيح أعمدة الشارع المديد. الآن، يعتقد أنّ الأمر يكون جرى كذلك.
في الصباح، فاجأته اليقظة، فتفاجأ بالظلمة. لم تكن ظلمة. كانت نور صباح منحبسٍ بالستار البلاستيك السميك. انقلب على جنبه الأيمن بسرعة ليتحقّق الساعة. فاته أن يضبطَ المنبّه على السادسة. وها العقربان يشيران إلى السابع وعشر دقائق. كيف نسي؟ لا شكّ أنّني سكرتُ، يقول. ليس لديه من وقت لأخذ دوش دافء، ولا وقت كذلك لإعداد فطوره. لن يحلق ذقنه. دخل إلى التواليت، وخرج من كسوة وانسلك في كسوة. تثبّت من وجود ملفاته بين ثنيات المحفظة، وصفق باب الشقة وراءه. لم يشرع نوافذ. لم يغسل أوان. لم يجمع قنان، أو يمسح طاولة. كان عليه أن يستقلّ قطار السابعة والنصف. ربّما تأخّر عن حصة الصباح بربع ساعة، بيد أنّه لن يضيّع الحصة. حتماً، سينتظره الطلبة. سيكون بالمدرج على الساعة التاسعة وربع. هو حسب ذلك. وسيعود في المساء.
انكشفت له الشقة ساكنةً، وهو يتقدّم بتؤدةٍ إلى الداخل. لم يكن السكون هو الذي استثار انتباهه. وإنّما تلك الرائحة المعطّرة بطعم السوسن، التي دهمت منشقه، هي التي جعلته يسير ببطء كما لو يلج شقة هي غير شقته. ثمّ ذلك التنظيم الذي رأى عليه محتويات الشقة هو الذي فرض عليه وجوماً كابساً. لم يندهش، ولم يصقب بلفظ. طاف في الأرجاء، وقعد على الصوفا ملقياً بكامل ظهره إلى المسند. وأخذ يفكرُ. وقتها فحسبُ، هاجمته حالة حيرة، بل لنقل انقضّ عليه السؤالٌ المحيّرٌ: من فعل هذا بشقتي؟
في الوهلة الأولى، فكّر في غادة. ثمّ ما فتئ أن صفح عن الفكرة. وعزا ذلك إلى عاملين اثنين: الأول، لأنّ مفتاح الشقة لم يعد في حوزتها. أتراها، اللعينة، نسخت عن المفتاح؟ همس. والثاني، لأنّ هذه المرأة، كما خبرها هو، لا تجيدُ التوظيب والغسل والمسح. تجيدُ فنّ المضاجعة، نعم. وغير ذلك لا تجيدُ. فكّر في نساء أخريات دخلن الشقة. بيد أنّه لا يقدر أن يتذكّر ما إذا كان سبق له أن وضع المفتاح في يد إحداهنّ. بعد حين، فكّر في أن يغيّر ضبة الباب. وتلك هي أولوية الأولويات، قال في سرّه. وما عتمَ أن بدّل في أولوياته، إذ حاد به التفكير ناحية إجراء فحص دقيق لمتاع الشقة. من يدريني، قال، لربّما دخلت إحداهنّ، وفعلت ما فعلت بديلَ شيء ثمين. وما يكون هذا الثمين؟ ساعة ذهبية؟ لا يملكها. مال؟ البطاقات البنكية عوّضت المحفظات والمخدات، أو ما شاكل. ما الذي يفتقده بالشقة؟ لا شيء. المشمولات والمتمّمات جميعها في موضعها. جهاز التلفاز. جهاز البيونر. أقراص الموسيقى.محتويات صوانيْ السرير. لا كتاب واحد ناقص بالخزانة. لا قطعة لباس واحدة في غير محلها. لا زوج حذاء غائب. هل من قارئ يفكّ هذا اللغز، فيعفيه عناء هذا التفكير المملّ؟
في طريقه إلى المفتاحي، في الصباح الموالي، تساءل عمّا إذا لم يكنْ لا يني يكرّرُ مشاهدَ فات أن عرضتْ له لكم مرّة، بالسيناريو نفسه، وبالتفاصيل عينها؟
والآن، ربّ سائل: لكن، كيف قضى السي محمد ليلتَه هذه قبل أن يفيقَ، ويقصد المفتاحي؟ أنا أجيبُ: احزرْ أنت، وهو يستوضح حارس العمارة عمّا إذا سأل عنه أحدهم أو رآه يدخل الشقة، فيرد الحارس بأنّ لا أحد سأل، ولا أحد دخل! لا عين رأت، ولا أذن سمعت. ثمّ أقول: ليكن في علمك أنّه في تلك الليلة المعلومة، وبعدما أغلق السي محمد الباب بالمفتاحين هذه المرة، وبينما كان يحضّر نفسه للنّوم إذا بالحذمول يئزّ أزيزاً متقطعاً، ويصمتُ. فتح السي محمد، في ضوء الأباجورة، على ميساج منْ مجهولٍ، وقرأ: hhhé mon Amour commet as-tu trouvé l’apprt ? ça te plait ? biz